![]() |
![]() |
![]() |
هذا الفيلسوف الهي يدور اكثر مباحثه حول التفكر في الاله المبدعووحدته وصفاته المعنوية من العلم والحكمة والقدرة، او ان شئت قلبحث عن القوة المدبرة للكون، وفلسفته تستقي من معين التصوف،ووحدة الوجود معتمدة على المبادئ الاغريقية، وروح فلسفة افلاطونوارسطو بادية باجلى مظاهرها فيها، ويلوح للناظر في كلماته ان اباندرسه الفلسفة خاض مدة مديدة لجج المسائل اللاهوتية، ووازن حججالفلاسفة من الاشراقيين والمشائين، ودرس اصول المتكلمين واصحابالجدل، وعرف ا نها جميعا لا توصل الى الحق، ولا تروي غليله; لا نهامعكرة بتناقض المبادئ .
وكيف تسكن نفس رجل زكي الفؤاد وقاد الذهن بما لا ينير ظلمةالمعضلات في المسائل اللاهوتية العويصة، وهي تحاول ان تبلغ مرتبةالشهود والعيان من مراتب الايمان، وبعد مدة طويلة لما لم يجد ضالته فيدرس ادلة الجدليين - الذين يقول في شان فلسفتهم: اني استغفر اللهواستعيذ عما ضيعتشطرا من عمري في طريقهم غير المستقيم -لاذ بحجر التصوف، وهناك وجد سكونه واطمئنانه، واخذ يسعى فيالتوفيق بينه وبين الشريعة بتاويل نصوصها وتوجيهها اليه .
جرت عادة الباحثين في المسائل اللاهوتية الا الصوفيين ان يضعوابابا في البحث عن الموجد للكون ، ويذكروا فيها ادلة يستمد بعضها منابطال التسلسل او الدور; لزعمهم ان المبدع الحكيم - اي القوة المدبرة -منفصل عن الكون، ولكن الصوفيين يرون ان الوجود المنبسط الذي يمثلالكون بمحسوسه ومعقوله كاف للدلالة على وجود الموجد وصفاته; لا نهعينه، وفي كل شيء آية دالة على وحدته .
ومذهب وحدة الوجود - البانتيسم - الله في الكل والكل في الله هو سرالتصوف وروحه، ولاجل ذلك لايتمسكون بادلة الكلاميين والجدليينوفرق الفلاسفة الذين لقرب فلسفتهم من مبادئهم، ولا يستدلون بوجودالقوة المدبرة المبدعة باكثر من بحثهم في شؤون الوجود المنبسط ومراتبهوظهوره .
وصدرالدين وان افاض في البحث عن كل المباحث اللاهوتية واكثرمباحث الفلسفة الادبية والفلسفة العامة وتبحر فيها، الا ان غرضنا الذينرمي اليه هو ان ناتي من فلسفته بنقطتي الوفاق والخلاف مع الفلسفةالمادية، وهي مسائل طالما سرح الانسان افكاره حولها كمسالة هل المادةازلية ام حادثة؟ وهل للكون مبدع غير الطبع؟ وهل هو شاعر عالم؟ وهلفي خلق الكون غاية وحكمة او لا؟ ثم نردفها ببعض آرائه العلميةوالادبية، وبذلك نصور نفسية رجل حكيم خدم اللغة العربية والعلم خدمةجليلة .
يقول في الجزء الثالث من الاسفار الاربعة:
« فصل في اثبات واجب الوجود والوصول الى معرفة ذاته: واعلم انالطرق الى الله كثيرة; لا نه ذو فضائل وجهات كثيرة، ولكل وجهة هوموليها لكن بعضها اوثق واشرف وانور من بعض، واسد البراهينواشرفها اليه هو الذي لا يكون الوسط في البرهان غيره بالحقيقة،فيكون الطريق الى المقصود هو عين المقصود، وهو سبيل الصديقينالذين يستشهدون به تعالى عليه، ثم يستشهدون بذاته على صفاته،وبصفاته على افعاله واحدا بعد واحد، وغير هؤلاء - كالمتكلمينوالطبيعيين وغيرهم - يتوسلون الى معرفة الله تعالى وصفاته بواسطةامر آخر غيره، كالامكان للماهية والحدوث للخلق، والحركةللجسم، او غير ذلك، وهي ايضا دلائل على ذاته، وشواهد علىصفاته، لكن هذا المنهج احكم واشرف، وقد اشير في الكتابالالهي الى تلك الطرق بقوله تعالى: « سنريهم آياتنا فى الآفاق وفىانفسهم حتى يتبين لهم انه الحق » والى هذه الطريقة اشار بقوله:« او لم يكف بربك انه على كل شىء شهيد » . وذلك لان الربانيينينظرون الى الوجود ويحققونه ويعلمون انه اصل كل شيء، ثميصلون بالنظر اليه الى ا نه بحسب اصل حقيقته واجب الوجود، واماالامكان والحاجة والمعلولية وغير ذلك فانما يلحقه لا لاجلحقيقته، بما هي حقيقته، بل لاجل نقائص واعدام خارجة عن اصلحقيقته ، ثم بالنظر فيما يلزم الوجوب او الامكان يصلون الى توحيدذاته وصفاته، ومن صفاته الى كيفية افعاله وآثاره، وهذه طريقةالانبياء كما في قوله تعالى: « قل هذه سبيلى ادعوا الى الله علىبصيرة » (1) .
وهذا المذهب يشبه مذهب « باسكال » المتوفى سنة 1662 م . ارىفي الطبيعة كائنا واجب الوجود دائما لا نهائيا .
وقال في اول رسالته في سريان الوجود:
« اعلم ان الواجب الحق هو المتفرد بالوجود الحقيقي وهو عينه،وغيره من الممكنات موجودة بالانتساب اليه، والارتباط به ارتباطاخاصا وانتسابا مخصوصا لا بعروض الوجود كما هو المشهور » .
ثم قال: « ان الوجود قد يطلق ويراد به الكون في الاعيان، ولا شكفي كونه امرا اعتباريا انتزاعيا، وقد يطلق ويراد به ما هو منشالانتزاع الكون في الاعيان ومصحح صدقه وحمله، وهو بهذا المعنىعين الواجب » .
وقال بعد بضعة سطور:
«ان مناط الوجوب الذاتي ليس الا كون نفس الواجب من حيث هومبدا لانتزاع الوجود والموجودية » .
من الاصول المقررة في الفلسفة الالهية التي وضع عليها بعض الآراءالفلسفية، واعترف بها صدرالدين فيما يظهر من كلماته السالفة ان الوجودامر واحد ذو مراتب في الشدة والضعف، وله وحدة معنوية .
ومنها: ان الوجود الحقيقي الذي صح ان يكون منشا لانتزاعالموجودات عنه، والذي هو مصدر الكون، او هو كالشمس منبع الانوارازلي موجود قائم بالذات لا جاعل له.
ومنها: ان مفهوم الوجود من اعرف الاشياء وكنهه في غاية الخفاء .فانا نرى ذرة المادة ونحسها بالبصر ونلمسها باليد ولكن اسال اي انسانتشاء من العلماء الطبيعيين - اي الفيزيولجيين - ما هي؟ وكيف وجدتاازلية ام حادثة؟ وما هو سرها؟ يقف امامك والحيرة ملكت عقلهولايدري ماذا يجيبك، ولا تنفعه اختباراته الكيميائية والفيزيائية .
فمعرة كنه الوجود رمز لا يزال مجهولا على رغم جهود الانسان فيكشفه منذ الاجيال والقرون، وذهب سعيه سدى، وكل جناح فكره عنالصول اليه.
فضم هذه الاصول بعضها الى بعض ينتج ان القوة التي اوجدت الكونبمعقوله ومحسوسه، ومثلت اجزاءه المنسقة، ونظمتها بنظامه العجيبهوالله على مذهب صدرالدين، او من هو سالك سبيله في القول بوحدةالوجود (2) ، وهذا الراي قريب من مذهب القائلين بان الطبيعة هي موجدةالكون ازلا.
ونقطة الوفاق بين المذهبين - مذهب وحدة الوجود او الصوفيينومذهب الطبيعيين - هي ما اشرنا اليه، الا ان مذهب الصوفيين وانصاروحدة الوجود - كما سيذكره صدرالدين ونشير اليه - يفارق مذهبالطبيعيين في ان هذه القوة الموجدة التي يطلقون عليها الوجود الحقيقي اوالواجب الوجود واجدة لجميع مراتب الكمال المعقول، ولا يشذ عنها كمالفي الوجود، فلها العلم والقدرة باقصى مراتبهما، فعلمه وقدرته غيرمتناهيين عدة وشدة ومدة.
وصدرالدين والصوفيون وانصار وحدة الوجود لا يقولون بانفصالالمبدا - الله - عن الكون، كما ا نهم لا يقولون بالحلول والاتحاد، بل يقولون:ان ارتباط الكون بالله تعالى وانتسابه كيفية مجهولة .
قال صدرالدين في اول رسالته سريان الوجود ما هذا نصه:
« ثم اعلم ان ذلك الارتباط كما مر ليس بالحالية ولا بالمحلية، بلهي نسبة خاصة وتعلق مخصوص يشبه نسبة المعروض الىالعارض بوجه من الوجوه، وليس هي بعينه كما توهم، والحق انحقيقة تلك النسبة والارتباط وكيفيتها مجهولة لا تعرف » .
وهذا مذهب مالبرانش.
قال في الكتاب الثالث من تاليفه المسمى بالبحث عن الحقيقة: انجميع الكائنات حتى المادية والدنيوية هي في الله الا ا نها بطريقة روحانيةمحضة لا نستطيع فهمها، يرى الله في داخل ذات نفسه كل الكائنات( ص 71 ) محاضرات العالم « دي جلارزا » الاستاذ في الجامعة المصرية.وايد صدر الدين مذهبه بقوله تعالى: «وهو معكم اين ماكنتم»(الحديد/4)، «ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجهالله»(البقرة/ 115)، «الا انه بكل شىء محيط»(فصلت / 54)،«واحاط بما لديهم واحصى»(الجن /28)، «وهو الله فى السمواتوفى الارض»(الانعام / 3)، «ونحن اقرب اليه من حبلالوريد»(ق/ 16)، «ونحن اقرب اليه منكم ولكنلاتبصرون»(الواقعة / 85)، «هو الا ول والآخر والظاهروالباطن»(الحديد /3). وهذا الفيلسوف لا يرضى ان تحمل هذه الآياتعلى مجرد علمه تعالى، وقال: ولا تصرف هذه الآيات عن ظواهرها،فحملها على مجرد علمه تعالى بها او غيرها كما هو شيمة الظاهريين ، فانالصرف عن الظواهر من غير داع اليه من عقل او نقل غير جائز اصلا،ولاداعي هناك قطعا، ولا مانع من الحمل على الظواهر على ما عرفناكفاعترف .
وقال صدرالدين ايضا: الاقرب في تقريب تلك النسبة - اعنياحاطته ومعيته بالموجودات - ما قال بعضهم: من ان من عرف معية الروحواحاطتها بالبدن مع تجردها وتنزهها عن الدخول فيه، والخروج عنه،واتصالها به وانفصالها عنه، عرف بوجه ما كيفية احاطته تعالى ومعيتهبالموجودات من غير حلول واتحاد، ولا دخول واتصال، ولا خروجوانفصال وان كان التفاوت في ذلك كثيرا بل لا يتناهى، ولهذا قال: «منعرف نفسه فقد عرف ربه» وللتنبيه على هذا المعنى قال بعض المشايخشعرا:
حق جان جهان است جهان جمله بدن.
املاك لطائف وحواس اين تن.
افلاك عناصر ومواليد اعضا.
توحيد همين است دگرها همه فن.
اي الله روح العالم، والعالم كجسمه، والاملاك حواس هذا الجسماللطيفة، والافلاك والعناصر الاربعة والمواليد الثلاثة اعضاء هذا الجسد،وهذا هو التوحيد حقا، وغيره لا يتجاوز كونه فنا من الفنون . ثم يقول:
« ولا يتوهم من ظاهر هذا الكلام ان الواجب الحق روح العالمونفسه كما توهم بعض القاصرين تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فانذلك على ما حقق في موضعه ممتنع، بل غرضه تقريب كيفيةاحاطته تعالى بالموجودات من بعض الوجوه الى الاذهان السليمةالمستقيمة » .
وذهب الى سعة في وجود الواجب ( اي الله ) واحاطة معنوية تامةتشمل الكون باجمعه، ولا يشذ عنه شيء، وهذا الراي يوضح مذهبصدرالدين في القوة المبدعة اي ( الله ) كما ا نه يوضح معنى وحدة الوجود .
قال في كتابه الشواهد الربوبية:
« الاشراق العاشر في ا نه جل اسمه كل الوجود. قول اجمالي: كلبسيط الحقيقة من جميع الوجوه فهو بوحدته كل الاشياء والا لكانذاته متحصل القوام من هوية امر ولا هوية امر ولو في العقل، قولتفصيلي: اذا قلنا الانسان بسلب عنه الفرس او الفرسية فليس هو منحيث هو انسان لا فرس، والا لزم من تعقله تعقل ذلك السلب اذسلبا بحتا، بل سلب نحو من الوجود، فكل مصداق لا يجاب سلبالمحمول عنه لا يكون الا مركبا، فان لك ان تحضر في الذهنصورته وصورة ذلك المحمول مواطاة او اشتقاقا، فتقايس بينهماوتسلب احدهما عن الآخر، فما به الشيء هو هو غير ما به يصدقعليه ا نه ليس هو، فاذا قلت زيد ليس بكاتب فلا تكون صورة زيدبما هي صورة زيد ليس بكاتب، والا لكان زيد من حيث هو زيدعدما بحتا، بل لابد وان يكون موضوع هذه القضية مركبا من صورةزيد وامر آخر به يكون مسلوبا عنه الكتابة من قوة او استعداد . فانالفعل المطلق لا يكون هو بعينه من حيث هو بالفعل عدم فعل آخر،الا ان يكون فيه تركيب من فعل وقوة ولو في العقل بعض تحليله الىماهية ووجود وامكان ووجوب، و واجب الوجود لما كان مجردالوجود القائم بذاته من غير شائبة كثيرة اصلا فلا يسلب عنه شيءمن الاشياء، فهو تمام كل شيء وكماله فالمسلوب عنه ليس الاقصورات الاشياء; لا نه تمامها، وتمام الشيء احق به واوكد له مننفسه، واليه الاشارة في قوله تعالى: « وما رميت اذ رميت ولكنالله رمى » وقوله: « ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهمولاخمسة الا هو سادسهم » فهو رابع الثلاثة وخامس الاربعة وسادسالخمسة، لا نه بوحدانيتة كل الاشياء وليس هو شيئا من الاشياء، لانوحدته ليست عددية من جنس وحدات الموجودات حتى يحصلمن تكررها الاعداد، بل وحدة حقيقية لا مكافئ لها في الوجود،ولهذا كفر الذين قالوا: ان الله ثالث ثلاثة، ولو قالوا: ثالث اثنينلميكونوا كفارا . ومن الشواهد البينة على هذه الدعوى قوله تعالى:« هو معكم اينما كنتم » فان هذه المعية ليست ممازجة ولا مداخلة،ولا حلولا ولا اتحادا، ولا معية في المرتبة، ولا في درجة الوجود،ولا في الزمان، ولا في الوضع، تعالى عن كل ذلك علوا كبيرا «هوالاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم » (3) .
ونسب اليه هذا الرباعي:
مجموعه كونين باشين سبق.
كرديم تفحص ورقا بعد ورق.
حقا كه نخوانديم ونديديم در او.
جز ذات حق و شئون ذاتيه حق.
اي تصفحنا صفحات الوجود ورقا بعد ورق حقا ما تلونا وما راينافيها الا ذات الحق تعالى، وشؤون ذاته الحقة .
ونسب اليه هذا البيت ايضا:
وما الناس في التمثال الا كثلجة.
وانت لها الماء الذي فيه (4) تابع.
وهذا الراي ايضا يشبه مذهب باسكال الذكر، وهذا المذهب كمذهبالماديين.
وان في المادة مبدا مدبرا هو الله، وان عنصر النظام الذي نعثر عليه فينواحي المادة هو الله، ويشعر بل ينص بقدم المادة وازليتها لان البدع ليسمنفصلا عنه وان كان ارتباطه بطريق مجهول بقي شيء، وفرق بينالمذهبين مذهب صدرالدين ووحدة الوجود، ومذهب الماديين وهو انالماديين ينكرون الشعور العام المسمى بالعلم، وينكرون وجود الغايةوالحكمة في خلق الكون واجزاء العالم ونواميسه الجارية، ولكنصدر الدين يثبت العلم والغاية في كليهما في الوجود .
من اعوص مسائل اللاهوت التي شغلتحيزا من افكار الفلاسفة مناقدم عصور الفلسفة هي مسالة علم البارئ ( الله )، اضطربت فيها الآراءواختلفت المذاهب حتى بلغت اصول المذاهب الفلسفية في العلم الىثمانية اقوال وآراء; لان علم الواجب على المبادئ الفلسفية لا يقاس بعلمالممكن.
ولما فكر صدر الدين في مذاهب الفلاسفة المتقدمين في العلمفوجدها لا تزيح النقاب عن وجه الحقيقة كما يريد سلك مسلكا في العلميتصل الى مسلك وحدة الوجود، ولكن العصر لم يكن يسمح له بالتصريحبه خوفا من الاضطهاد الديني فذكر:
1 - مذاهب المشائين وابي نصر وابن سينا وبهمنيار.
2 - مذهب الاشراقيين والسهروردي صاحب حكمة الاشراق.
3 - مذهب المعتزلة.
4 - مذهب فرفوريوس.
وقال: ان لكل من هذه المذاهب الاربعة وجها صحيحا لعلمهالتفصيلي، وقال: ولا الذي استراحت اليه قلوب المتاخرين من العلمالاجمالي .
بل كما علمنا الله سبحانه بطريق اختصاصي سوى هذه الطرقالمذكورة، ولا ارى في التنصيص عليه مصلحة لغموضه وعسر ادراكه علىاكثر الافهام، ولكني اشير اليه اشارة يهتدي بها اليه من وفق له، وهو ان ذاتهفي مرتبة ذاته، مظهر لجميع صفاته واسمائه كلها، وهو ايضا مجلاة يرىبها، وفيها صور جميع الممكنات من غير حلول ولا اتحاد; اذ الحلوليقتضي وجود شيئين لكل منهما وجود يغاير وجود صاحبه، والاتحاديستدعي ثبوت امرين يشتركان في وجود واحد ينتسب ذلك الوجود الىكل منهما بالذات، وهناك ليس كذلك كما اشرنا اليه، بل ذاته بمنزلة مرآةترى فيها صور الموجودات كلها، وليس وجود المرآة وجود ما يتراىفيها اصلا اشارة تمثيلية.
واعلم ان امر المرآة عجيب، وقد خلقها الله عبرة للناظرين، وذلك انما يظهر فيها ويتراى من الصور ليست هي بعينها الاشخاص الخارجيةكما ذهب اليه الرياضيون القائلون بخروج الشعاع، ولا هي صور منطبعةفيها كما اختاره الطبيعيون، ولا هي موجودات عالم المثال كما زعمهالاشراقيون، فان كلا من هذه الوجوه الثلاثة مقدوح مردود بوجوه منالقدح والرد، كما هو مشروح في كتب الحكماء، بل الصواب ما اهتدينا اليهبنور الاعلام الرباني الخاص وهو ان تلك الصور موجودات لا بالذات، بلبالعرض بتبعية وجود الاشخاص المقترنة بجسم مشف وسطح صقيل علىشرائط مخصوصة، فوجودها في الخارج وجود الحكاية بما هي حكاية،وهكذا يكون وجود الماهيات والطبائع الكلية عندنا في الخارج، فالكليالطبيعي اي الماهية من حيث هي موجودة بالعرض; لا نه حكاية الوجودليس معدوما مطلقا كما عليه المتكلمون، ولا موجودا اصليا كما عليهالحكماء، بل له وجود ظلي الخ . ايضاح هذا المطلب يتم بعدة مقدمات:
الاولى : ان علم البارئ يمثل بعلم النفس بذاتها، فان العلم والمعلومهناك واحد، فالنفس عالمة، ومعلومة، والعلم ايضا قائم بها .
الثانية : ان وجود البارئ ببساطته لا يشاب بعدم ونقص، وله كماللانهائي، فارفع درجات العلم واكملها موجود هناك، ولا يشوبه غيبة شيءولا صغيرة ولا كبيرة الا احصاها اذ لو بقي شيء من الاشياء ولم يكنذلك العلم علما به لم يكن صرف حقيقة العلم، بل علما بوجه، وجهلابوجه آخر، وصرف حقيقة الشيء لا تمتزج بغيره، والا لم يخرججميعه من القوة الى الفعل ( اي لم يبلغ حد الكمال وهو خلافالفرض ) وعلمه الى وجوده فكما ان وجوده لا يشاب بعدم ونقصفكذلك علمه الذي هو حضور ذاته لا يشاب بغيبة شيء من الاشياء علىا نه تعالى محقق الحقائق ومشيء الاشياء، فحضور ذاته تعالى حضور كلشيء .
الثالثة : ان مثل الواجب البارئ كمثل المرآة، ومثل الموجوداتالممكنات كمثل الصور المرئية فيها، المنطبعة على صفحتها بواسطة اسبابهامن محاذاة ذي الصورة لها و وجود النور وغيرهما، فالصورة مرئية فيهاوبها ولكن كيفية انطباعها وظهورها مجهولة لنا، فتلك الموجودات تظهرفي وجه الله، وقيامها وظهورها يكون به تعالى، فالطبائع الكلية لها وجودظلي، ولو لا وجود البارئ لم يكن لها ظهور، كما ا نه لو لا المرآة لم يكنللصور ظهور ووجود . فنحن نبصر الصور في المرآة ولا نعلم كيفيةانطباعها، فكذلك نرى الموجودات وهي قائمة به تعالى ولكن لا ندري ماهو الوجود الحق الواجب .
الرابعة : فهو عالم بذاته، وعلمه هو حضور الذات، فنحن اذا فرضنا انالمرآة شعرت بذاتها المنطبعة فيها الصور يكون المثل اقرب الى المقصود ،فالوجود اللانهائي عالم بالوجود كافة .
هذه نهاية ما يصور ويدرك من فلسفة صدرالدين في العلم فهمناه منجملة كلامه المستور بستائر التقية، ثم هذا العلم يتعلق بعلمه المتعلقبالايجاد .
من المسائل الفلسفية الغامضة التي تحير فيها كبار الفلاسفة مسالةوجود القصد، والحكمة في تكون العالم، يقول صدرالدين :
« زعم انياذقلس ان تكون الاجرام الاسطقسية بالاتفاق، وذهبذميقراطيس ومن تبعه ان العالم وجد بالاتفاق، وان لم يكن تكونالحيوان والنبات بالاتفاق .
يقول الثاني: ان مبادئ العالم اجرام صغار لا تتجزا لصلابتها، وهيمبثوثة في خلاء غير متناه، وهي متشاكلة الطبائع مختلفة الاشكالدائمة الحركة، فاتفق ان تصادمت منها جملة واجتمعت على هيئةمخصوصة فتكون منها هذا العالم .
ويقول الاول: ان تكون الاجرام الاسطقسية بالاتفاق فما اتفق انكانت هيئة اجتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي، وما اتفقان لم يكن كذلك لم يبق، واحتجبحجج:
منها: الطبيعة لا روية لها فلا يعقل ان يكون فعلها لاجل غرض.
ومنها: ان الفساد والموت والتشويهات والزوائد ليست مقصودةللطبيعة مع ان لها نظاما لا يتغير كاضدادها، فعلم ان الجميع غيرمقصود للطبيعة، فان نظام الذبول وان كان على عكس النشو، والنمولكن له كعكسه نظام لا يتغير، ونهج لا يمهل، ولما كان نظام الذبولضرورة المادة من دون ان يكون مقصودا للطبيعة، فلا جرم نحكمبان نظام النشوء والنمو ايضا بسبب ضرورة المادة بلا قصد وداعيةللطبيعة، وهذا كالمطر الذي يعلم جزما ا نه كائن لضرورة المادة;اذالشمس اذا بخرت الماء فخلص البخار الى الجو البارد فلما بردصار ماء ثقيلا فنزل ضرورة، فاتفق ان يقع في مصالح فيظن انالامطار مقصودة لتلك المصالح، وليس كذلك بل لضرورة المادة .
ومنها: ان الطبيعة الواحدة تفعل افعالا مختلفة مثل الحرارة فانهاتحل الشمع، وتعقد الملح، وتسود وجه القصار، وتبيض وجه الثوب،فهذه حجج القائلين بالاتفاق » (5) .
وضع صدر الدين اولا مقدمة في دحض حجج هذا المذهب مفادها:ان الامور الممكنة على اربعة اقسام:
1 - الدائمي، وهو يوجد بعلته ولا يعارضه معارض كحركة المنظومةالشمسية مثلا .
2 - الاكثري، وهو قد يعارضه كالنار في اكثر الامر تحرق الحطب،وهو يتم بشرط عدم المعارض سواء اكان طبيعيا او اراديا، فان الارادة معالتصميم وتهيؤه للحركة وعدم مانع للحركة وناقض للعزيمة وامكانالوصول الى المطلوب فبين انه يستحيل ان لا يوصل اليه .
3 - ما يحصل بالتساوي كقعود زيد وقيامه .
4 - ما يحصل نادرا او على الاقل كتكون اصبع زائدة، اما ما يكونعلى الدوام او على الاكثر فوجودهما لا يكون بالاتفاق; لان الاتفاق معناهان لا يخضع الشيء للنظام المستمر او الاكثر، والثالث والرابع قد يكونان- باعتبار ما - واجبا، اي خاضعا لناموس لا يتغير، مثل ان يشترط انالمادة في تكون كف الجنين فضلت عن المصروف عنها الى الاصابعالخمس، والقوة الفاعلة صادفت استعدادا تاما في مادة طبيعية، فيجب انيتخلق اصبع زائدة، فعند هذه الشروط يجب تكون الاصبع الزائدة،ويكون ذلك ايضا من باب الدائم بالنسبة الى هذه الطبيعة الجزئية وان كاننادرا قليلا بالقياس الى سائر افراد النوع، فاذا حقق الامر في تكون الامرالاقل ا نه دائم بشروطه واسبابه، ففي صيرورة المساوي اكثريا او دائميابملاحظة شروطه واسبابه لم يبق ريبة، فالامور الموجودة بالاتفاق انماهي بالاتفاق عند الجاهل باسبابها وعللها، واما بالقياس الى مسببالاسباب والاسباب المكتنفة بها فلم يكن شيء من الموجودات اتفاقا كماوقع في السنة الحكماء الاشياء كلها عند الاوائل واجبات.
فلو احاط الانسان بجميع الاسباب والعلل حتى لميشذ عن علمهشيء لميكن شيء عنده موجودا بالاتفاق، فان عثر حافر بئر على كنز فهوبالقياس الى الجاهل بالاسباب التي ساقت الحافر الى الكنز اتفاق، وامابالقياس الى من احاط بالاسباب المؤدية اليه ليس بالاتفاق بل بالوجوب.
فقد ثبت ان الاسباب الاتفاقية حيث تكون لاجل شيء الا ا نهااسباب فاعلية بالعرض، والغايات غايات بالعرض، وربما يتادى السببالاتفاقي الى غايته الذاتية كالحجر الهابط اذا شج ثم هبط الى مهبطه الذيهو الغاية الذاتية، وربما لا يتادى الى غايته الذاتية بل اقتصر على الاتفاقيكالحجر الهابط اذا شج ووقف، ففي الاول يسمى بالقياس الى الغايةالطبيعية سببا ذاتيا، وبالقياس الى الغاية العرضية سببا اتفاقيا وفيالثانييسمي بالقياس الى الغاية الذاتية باطلا.
فاذا تحقق ذلك فقد علم ان الاتفاق غاية عرضية لامر طبيعي اوارادي او قسري ينتهي الى طبيعة او ارادة، فتكون الطبيعة والارادة اقدم منالاتفاق لذاتيهما، فما لم يكن اولا امور طبيعية او ارادية لم يقع اتفاقا،فالامور الطبيعية والارادية متوجهة نحو غايات بالذات، والاتفاق طارئعليهما اذا قيس اليهما من حيث ان الامر الكائن في نفسه غير متوقع عنها،اذ ليس دائما ولا اكثريا لكن يلزم ان يكون من شانها التادية اليها، ثم اخذفي دحض حجج الاتفاقي على التفصيل:
دحض الحجة الاولى: بان الطبيعة اذا عدمت الروية ولا يستلزم اويوجب ان يكون الفعل الصادر عنها غير متوجه الى غاية، فان الرويةلا تجعل الفعل ذا غاية، بل انما يتميز الفعل الذي يختار ويعينه من بينافعال يجوز اختيارها ، ثم يكون لكل فعل من تلك الافعال غايةمخصوصة يلزم تادي ذلك الفعل اليها لذاته لابجعل جاعل حتى لو قدركون النفس مسلمة عن اختلاف الدواعي والصوارف، لكان يصدر عنالناس فعل متشابه على نهج واحد من غير روية كما في الفلك، فان الافلاكسليمة عن البواعث والعوارض المختلفة، فلاجرم ان تكون افاعيلها علىنهج واحد من غير روية، ومما يؤيد ذلك ان نفس الروية فعل ذو غاية وهيلا تحتاج الى روية اخرى .
و ايضا ان الصناعات لا شبهة في تحقق غايات لها، ثم اذا صارتملكة لم يحتج في استعمالها الى الروية، بل ربما تكون مانعة كالكاتبالماهر لا يروي في كل حرف، وكذا العواد الماهر لا يتفكر في كل نقرة، واذاروى الكاتب في كتبه حرفا والعواد في نقره يتبلد في صناعته، فللطبيعةغايات بلا قصد وروية .
ودحض الحجة الثانية: بان الفساد في هذه الكائنات تارة لعدمكمالاتها، وتارة لحصول موانع وارادات خارجة عن مجرى الطبيعة .
اما الاعدام فليس من شرط كون الطبيعة متوجهة الى غاية ان تبلغاليها، فالموت والفساد والذبول كل ذلك لقصور الطبيعة عن البلوغ الىالغاية، وها هنا سر ليس هذا المشهد موضع بيانه.
واما نظام الذبول هو ايضا متاد الى غاية، وذلك لان له سببين:احدهما بالذات وهو الحرارة، والآخر بالعرض وهو الطبيعة، ولكل منهماغاية، فالحرارة غايتها تحليل الرطوبات فتسوق المادة اليه وتقنيتها علىالنظام، ذلك للحرارة بالذات والطبيعة التي في البدن غايتها حفظ البدن ماامكن بامداد بعد امداد، ولكن كل مدد تال يكون الاستمداد منه اقل منالمدد الاول ، فيكون نقصان الامداد سببا لنظام الذبول بالعرض، والتحليلسببا بالذات للذبول، وفعل كل واحد منهما متوجه الى غاية، ثم ان الموتوان لم يكن غاية بالقياس الى بدن جزئي فهو غاية بالقياس الى نظامواجب لما اعد للنفس من الحياة السرمدية، وكذا ضعف البدن وذبوله لمايتبعها من رياضات النفس وكسر قواها البدنية التي بسببها تستعد للآخرةعلى ما يعرف في علم النفس .
واما الزيادات فهي كائنة لغاية ما، فان المادة اذا فضلت افادتهاالطبيعة الصورة التي تستحقها ولا تعطلها كما علمت، فيكون فعل الطبيعةفيها بالغاية وان لم يكن غاية للبدن بمجموعه، ونحن لم ندع ان كل غايةلطبيعة يجب ان يكون غاية لغيرها .
واما ما نقل في المطر فممنوع، بل السبب فيه اوضاع سماوية تلحقهاقوابل واستعدادات ارضية للنظام الكلي، وانفتاح الخيرات ونزول البركاتفهي اسباب الهية لها غايات دائمة او اكثرية في الطبيعة .
ودحض الثالثة: بان القوة المحرقة لها غاية واحدة هي احالة المحترقالى مشاكلة جوهرها، واما سائر الافاعيل كالعقد والحل والتسويدوالتبييض وغيرها فانما هي توابع ضرورية، وستعلم اقسام الضروريالذي هو احد الغايات بالعرض .
وقد ذكر في كتاب الشفاء ابطال مذهب انباذقلس ببيانات مبنية علىالمشاهدات وشواهد موضحة، ولذلك حمل بعضهم كلامه في البختوالاتفاق على ا نه من الرموز والتجوزات، او ا نه مختلق عليه; لدلالة ماتصفحه ووجده من كلامه على قوة سلوكه وعلو قدره في العلوم، ومنجملة تلك الدلائل الواضحة ان البقعة الواحدة اذا سقطت فيها حبة بر وحبةشعير انبت البر برا والشعير شعيرا، فعلم ان صيرورة جزء من الارض براوالآخر شعيرا لاجل ان القوة الفاعلة تحركها الى تلك الصور لا لضرورةالمادة لتشابهها، ولو فرض ان اجزاء الارض مختلفة فاختلافها ليسبالماهية الارضية، بل لان قوة في الحبة افادت تلك الخاصية لذلك الجزءالارضي، فان كانت افادت تلك الخاصية لخاصية اخرى سابقة عليها لزمالتسلسل، وان لم يكن كذلك كانت القوة المودعة في البرة لذاتها متوجهةالى غاية معينة والا فلم لا ينبت الزيتون برا والبطيخ شعيرا؟
1) الاسفار الاربعة ، صدر الدين الشيرازى ، ج6 ، ص12 - 14 .
2) والى هذا المعنى اشار الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي .
الله والكون لاع.
-لان الحياة اقترنا.
فما لذا عن ذاك او.
لذاك عن ذا من غنى.
ما الكون الا مظهر.
له به تبينا.
3) الشواهد الربوبية ، صدرالدين الشيرازي ، ص128 .
4) وجدنا البيتبنصه المنقول ولكن ضمير التذكير لا يستقيم الا بارجاعه الى التمثال .
5) راجع: الاسفار الاربعة ، ج2 ، ص253 - 255 .
![]() |
![]() |
![]() |